الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}.قوله: {حَقَّ جِهَادِهِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ منصوبًا على المصدرِ. وهو واضح. وقال أبو البقاء: ويجوزُ أَنْ يكونَ نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ أي: جهادًا حَقَّ جهادِه. وفيه نظر من حيث إنّ هذا معرفةٌ فكيف يُجعل صفةً لنكرةِ؟ قال الزمخشريُّ: فإنْ قلتَ: ما وَجْهُ هذه الإضافة، وكان القياسُ حَقَّ الجهادِ فيه، أو حَقَّ جهادِكم فيه. كما قال: {وَجَاهِدُوا فِي الله}؟ قلت: إلإضافة تكون بأدنى ملابسةٍ واختصاصٍ، فلمَا كان الجهادُ مختصًا بالله من حيث إنه مفعولٌ من أجلِه ولوجهِه صحَّتْ إضافتُه إليه. ويجوز أن يُتَّسَعَ في الظرف كقوله:يعني بالظرفِ الجارَّ والمجرورَ، كأنه كان الأصلُ: حَقَّ جهادٍ فيه، فحذف حرفَ الجرِّ وأُضيف المصدرُ للضميرِ، وهو من باب هو حقُّ عالم وجِدُّ عالم أي: عالِمٌّ حقًّا وعالِمٌ جدًّا.قوله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ} فيه أوجهٌ:أحدُها: أنها منصوبةٌ بـ: اتَّبِعوا مضمرًا قاله الحوفي، وتبعه أبو البقاء. الثاني: أنها على الاختصاصِ أي: أعني بالدين ملةَ أبيكم. الثالث: أنها منصوبةٌ بما تقدَّمها، كأنه قال: وَسَّع دينَكم تَوْسِعَةً ملَّةِ أبيكم، ثم حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. قاله الزمخشري. الرابع: أنه منصوبٌ بـ: جَعَلها مُقَدرًا، قاله ابن عطية. إلخ. امس: أنها منصوبةٌ على حَذْف كافِ الجرِّ أي كملَّةِ إبراهيم، قاله الفراء. وقال أبو البقاء قريبًا منه. فإنه قال: وقيل: تقديرُه: مثلَ ملةِ؛ لأن المعنى: سَهَّل عليكم الدينَ مثلَ ملةِ أبيكم، فَحُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. وأَظْهَرُ هذه الثالثُ. وإبراهيم بدلٌ أو بيانٌ، أو منصوبٌ بأَعْني.قوله: {هُوَ سَمَاكُمُ} في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على إبراهيم فإنه أقربُ مذكورٍ. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ قال: وفي هذه اللفظةِ يعني قوله: {وفي هذا} ضَعْفُ قَوْلِ مَنْ قال: الضمير لإبراهيم. ولا يَتَوَجَّه إلاَّ بتقديرِ محذوفٍ من الكلامِ مستأنفٍ انتهى. ومعنى ضَعْف قولِ مَنْ قال بذلك أنَّ قوله: {وفي هذا} عطفٌ على {مِنْ قبلُ}، و{هذا} إشارةٌ إلى القرآن المشارَ إليه إنما نزل بعد إبراهيم بمُدَدٍ طِوالٍ؛ فلذلك ضَعُفَ قوله. وقوله: إلاَّ بتقديرِ محذوفٍ الذي ينبغي أَنْ يقدَّرَ: وسُمِّيْتُم في هذا القرآن المسلمين. وقال أبو البقاء: قيل الضميرُ لإبراهيم، فعلى هذا الوجهِ يكونُ قوله: {وفي هذا} أي: وفي هذا القرآن سببُ تسميتِهم. والثاني: أنه عائدٌ على اللهِ تعالى ويَدُلُّ له قراءة أُبَيّ: {الله سَمَاكم} بصريح الجلالةِ أي: سَمَاكم في الكتبِ السالفةِ وفي هذا القرآن الكريم أيضًا.قوله: {لِيَكُونَ الرسول} متعلق بـ {سَمَاكم}.وقوله: {فَنِعْمَ المولى} أي: اللهُ. وحَسَّن حذفَ المخصوصِ وقوعُ الثاني رأسَ آيةٍ وفاصلةٍ. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}.الركوعُ والسجودُ والعبادةُ كُلُّها بمعنى الصلاة؛ لأنَّ الصلاةَ تشتمل على هذه الأفعال جميعها، ولَكِن فَرْقَها في الذكر مراعاةً لقلبِكَ من الخوف عند الأمر بالصلاة؛ فَقَسَّمها ليكونَ مع كلِّ لفظٍ ومعنى نوعٌ من التخفيف والترفيه، ولقلوبِ أهل المعرفةِ في كل لفظةٍ راحة جديدة.ويقال لَوَّنَ عليهم العبادةَ، وأَمَرَهم بها، ثم جميعُها عبادةٌ واحدةٌ، ووَعَدَ عليها من الثوابِ الكثيرِ ما تقْصُرُ عن عِلْمه البصائر.ويقال عَلِمَ أَنَّ الأحبابَ يُحِبُّون سماعَ كلامِه فَطَّولَ عليهم القولَ إلى آخر الآية؛ ليزدادوا عند سماع ذلك أُنَسًَا على أُنسٍ، ورَوْحًَا على روْح، ومُعَادُ خطابِ الأحبابِ وهو رَوْحُ رُوحهم وكمالُ راحتهم.ثم قال بعد هذا: {وَافْعَلُوا الخَيْرَ} فأدخل فيه جميعَ أنواع القُرَبِ.وقوله جلّ ذكره: {وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}.{حَقَّ جِهَادِهِ}: حق الجهاد ما وافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوع، فإذا حَصَلَتْ في شيءٍ منه مخالفةٌ فليس حَقَّ جهاده.ويقال المجاهدة على أقسام: مجاهدةٌ بالنَّفْسِ، ومجاهدةٌ بالقلبِ، ومجاهدةٌ بالمال. فالمجاهدةُ بالنفس ألا يَدَّخِرَ العبدُ ميسورًا إلا بَذَلَه في الطاعة بتحمل المشاق، ولا يطلب الرخص والإرفاق. والمجاهدةُ بالقلب صَوْنُه عن الخواطرِ الرديئةِ مثل الغفلة، والعزمُ على المخالفات، وتذكرُ ما سَلَفَ أيام الفترة والبطالات. والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار.ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق، وتقديم الأشق على الأسهل- وإنْ كان في الأَخَفِّ أيضًا حق.ويقال حق الجهاد ألا يَفْتُرَ العبدُ عن مجاهدةِ النَّفْس لحظةً، قال قائلُهم:قوله جلّ ذكره: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ}.يحتمل أن يقول من حق اجتبائه إياكم أَنْ تُعَظمُّوا أَمْرَ مولاكم.ويحتمل أن يقال هو الذي اجتباكم، ولولا أنه اجتباكم لَمَا جَاهَدْتُم، فلاجتبائه إياك وَفَّقَكَ حتى جاهدتَ.ويقال عَلَم ما كنت تفعله قبل أَنْ خَلَقَكَ ولم يمنعه ذلك مِنْ أَنْ يَجْتَبِيَكَ، وكذلك إِنْ رأى ما فَعَلْتَ فلا يمنعه ذلك أَنْ يتجاوزَ عنك ولا يعاقبك.قوله جلّ ذكره: {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.الشرع مبناه على السهولة، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجِب جزيلَ فضله وإحسانه، وتتخلَّص به من أليم عقابه وامتحانه- يسيرٌ من الأمر لا يستغرق كُنْه إمكانك؛ بمعنى أَنَّك إٍن أَرَدْتَ فِعْلَه لَقَدَرْتَ عليه، وإنْ لم توصَفْ في الحال بأنَّك مستطيعٌ ما ليس بموجودٍ فيك.قوله جلّ ذكره: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم}.أي اتَّبِعوا والزَمُوا مِلَّةَ أبيكم إبراهيم عليه السلام في البَذْلِ والسخاء والجود والخلة والإحسان.قوله جلّ ذكره: {هُوَ سَمَاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وفي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} اللَّهُ هو الذي اجتباكم، وهو الذي بالإسلام والعرفان سَمَاكم المسلمين. وقيل إبراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] قوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ}، نَصَبَ الرسولَ بالشهادة علينا، وأمره بالشفاعة لأمته، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يُبْقى للشفاعة موضعًا ومحلًا.قوله جلّ ذكره: {وَتَكُونُوا شهداء عَلَى النَّاسِ}.وتلك الشهادة إنما نؤديها لله، ومَنْ كات له شهادة عند أحد- وهو كريم- فلا يجرح شاهده، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده.قوله جلّ ذكره: {فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.أقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ بحكم الإتمام، ونعت الاستدامة، وجميل الاستقامة.والاعتصامُ بالله التبري من الحول والقوة والنهوض بعبادة الله بالله لله يقال الاعتصام بالله التمسكُ بالكتاب والسنة. ويقال الاعتصامُ بالله حُسْنُ الاستقامة بدوام الاستعانة.{هُوَ مَوْلاَكُمْ}: سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه.{فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} نِعْمَ المولى: إخبارُ عن عظمته، ونعم النصير: إخبارُ عن رحمته.ويقال إن قال لأيوب: {نِعْمَ العَبْدُ} [ص: 44] ولسليمان: {نِعْمَ العَبْدُ} [ص: 30] فلقد قال لنا: {نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}، ومدحه لِنفسه أعزُّ وأجلُّ من مدحه لك.ويقال: {نِعْمَ المَوْلَى}: بَدَأَكَ بالمحبة قبل أنْ أحببتَه، وقبل أن عَرَفْتَه أو طَلَبْتَه أو عَبَدته.{وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: إذا انصرف عنكَ جمع مَنْ لَكَ فلا يدخل القبرَ معك أحدٌ كان ناصِرَك، ولا عند السؤال أو عند الصراط. اهـ. .التفسير الإشاري: .قال نظام الدين النيسابوري: التأويل: {سخر لكم ما} في أرض البشرية من الصفات الحيوانية والشيطانية، وسخر فلك الواردات المغيبة تجري في بحر القلب، ويمسك القلب أن تقع على ارض النفس بأن تتصف بصفاتها {إلا بإذنه} بقدر ما أباحه الشرع من ضروريات المأكول والملبوس وغيرهما {وهو الذي أحياكم} بازدواج الروح إلى القالب {ثم يميتكم} عن صفات البشرية {ثم يحييكم} بنور الصفات الرحمانية {فلا ينازعنك} في أمرك فإن لك مع الله وقتًا لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكل قوم رتبة لا يتجاوزونها {إن الذين يدعون من دون الله} كالأصنام الظاهرة والباطنة لن يطلعوا على كيفية خلق الذباب، وإن يسلبهم ذباب هواجس النفس شيئًا من صفاء القلب وجمعية الوقت {ضعف الطالب} وهو القلب غير المؤيد بنور الإيمان {والمطلوب} وهو النفس والشيطان {اركعوا} بالنزول عن مرتبة الإنسانية إلى خضوع الحيوانية:{ومنهم من يمشي على أربع} [النور: 45] {واسجدوا} بالنزول إلى مرتبة الحيواينة {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6] {واعبدوا ربكم} بجعل الطاعة خالصة له {وافعلوا الخير} بمراقبة الله في جميع أحوالكم {لعلكم تفلحون} بالوصال. {وجاهدوا في الله حق جهاده} فجهاد النفس بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين، وجهاد الروح بتحليته بإفناء الوجود في وجوده {هو اجتباكم} لهذه الكرامات من بين سائر البريات ولولا أنه اجتباكم ما اهتديتم إليه كما قيل:فلولاكم ما عرفنا الهوى... وما جعل عليكم في دين العشاق. وهو السير إلى الله من ضيق «من تقرَّب إلى شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا» والسير إلى الله من سنة إبراهيم {إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الصافات: 99] {هو سماكم المسلمين} في الأزل وهو في هذا الطور. وإنما قدم الرسول لأن روحه في طرف الأزل مقدم أول ما خلق الله روحي فهو مشرف وقتئذ على أرواح أمته وبعد ذلك خلقت أرواح أمته مشرفين على أرواح غيرهم. وفي سورة البقرة اعتبر طرف الأبد فوقع الختم على الرسول وعلى شهادته {فأقيموا الصلاة} بدوام السير والعروج إلى الله والتعظيم لأمره {وآتوا الزكاة} بدعوة الخلق إلى الله والشفقة عليهم {واعتصموا بحبل الله} حتى تصلوا إليه هو متولي أفنائكم عنكم {فنعم المولى} في إفناء وجودكم {ونعم النصير} في إبقائكم بربكم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين وذرياته وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا ابدًا إلى يوم الدين. اهـ..قال الألوسي: ومن باب الإشارة في الآيات: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ} كيد عدوهم من الشيطان والنفس {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] ويدخل في ذلك الشيطان والنفس، وصدق الوصفين عليهما ظاهر جدًّا بل لا خوان ولا كفور مثلهما {الذين إِنْ مكناهم في الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [الحج: 41] الخ فيه إشارة إلى حال أهل التمكين وأنهم مهديون هادون فلا شطح عندهم ولا يضل أحد بكلماتهم {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلَكِناها وهي ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مُّشَيَّدَةٍ} [الحج: 45] قيل: في القرية الظالمة إشارة إلى القلب الغافل عن الله تعالى، وفي البئر المعطلة إشارة إلى الذهن الذي لم يستخرج منه الأفكار الصافية، وفي القصر المشيد إشارة إلى البدن المشتمل على حجرات القوى.{فَإِنَّهَا لاَ تعمى الأبصار ولَكِن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46] فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين المنكرين فإن قلوبهم عمى عن رؤية أنوار أهل الله تعالى فإن لهم أنوارًا لا ترى إلا بعين القلب وبهذه العين تدرك حقائق الملك ودقائق الملكوت، وفي الحديث: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى».{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] قد تقدم الكلام في اليوم وانقسامه فتذكر {فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} أي ستر عن الأغيار من أن يقفوا على حقيقتهم كما يشير ما يروونه من الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم أحد غيري» {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج: 50] وهو العلم اللدني الذي به غداء الأرواح.وقال بعضهم: رزق القلوب حلاوة العرفان ورزق الأسرار مشاهدة الجمال ورزق الأرواح مكاشفة الجلال وإلى هذا الرزق يشير عليه الصلاة والسلام بقوله: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» والإشارة في قوله تعالى: {وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أمنيته} [الحج: 52] الآيات على قول من زعم صحة حديث الغرانيق إلى أنه ينبغي أن يكون العبد فناء في أرادة مولاه عز وجل وإلا ابتلى الشيطان ليتأدب ولا يبقى ذلك التلبيس لمنافاته الحكمة {والذين هَاجَرُواْ في سَبِيلِ الله} عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة {ثُمَّ قُتِلُواْ} بسيف الصدق والرياضة {أَوْ مَاتُواْ} بالجذبة عن أوصاف البشرية {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا} [الحج: 58] رزق دوام الوصلة كما قيل: أو هو كالرزق الكريم {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} [الحج: 60] فيه إشارة إلى نصر السالك الذي عاقب نفسه بالمجاهدة بعد أن عاقبته بالمخالفة ثم ظلمته باستيلاء صفاتها {وَإِن جادلوك فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: 68] أخذ الصوفية منه ترك الجدال مع المنكرين.وذكر بعضهم أن الجدال معهم عبث كالجدال مع العنين في لذة الجماع {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ في وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} [الحج: 72] الآية فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التهجم والبسور وهم في زماننا كثيرون فإنا لله وإنا إليه راجعون، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا} [الحج: 73] الخ إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله تعالى وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين إن {ما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو رد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل: انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا، ورأيت كثيرًا منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعًا في قبورهم لَكِنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افترائهم، ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون: إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية.{وجاهدوا في الله حَقَّ جهاده}.شامل لجميع أنواع المجاهدة، ومنها جهاد النفس وهو بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين، وجهاد الروح بإفناء الوجود، وقد قيل:{واعتصموا بالله} تمسكوا به جل وعلا في جميع أحوالكم {هُوَ مولاكم} على الحقيقة {فَنِعْمَ المولى} في إفناء وجودكم {وَنِعْمَ النصير} [الحج: 78] في إبقائكم، وما أعظم هذه الخاتمة لقوم يعقلون وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. اهـ.
|